جريدة الأحبار - الاربعاء 5 من نوفمبر 2008 – 7 من ذو القعدة 1429
– العدد 17644 – السنة 57
يوميات الأخبار
الّجمال.. في السودان
جمال الغيطاني
للجمال النسائي في السودان خصوصية وفرادة، ربما للتنوع
والاختلاط المستمر، خاصة مع تمازج الدم العربي والزنجي
الجمعة:
مرة أخري استقبل الشروق في شرفة الفندق، مطلا علي النيل الازرق
الساري علي مهل من هضاب الحبشة إلي البحر المتوسط، لا شيء مثل
الماء يؤجج قدرتي علي التأمل، ولا نهر مثل النيل يشعرني بالراحة
يحضني علي مواجهة النفس، استعادة ما كان وتأمل ما يمكن ان يكون،
في النيل أمر عجيب، شيء غامض اعجز عن وصفه، عن تحديده. كأن
مجراه بما يحوي من ماء يسمع ويري، ثمة عناصر حسية، انسانية فيه،
عندما اقترب ربما يبدأ حوار خفي بيننا،عندما انظر إلي مياهه استعيد
لحظات اجتهدت من قبل زمنا لاستعيدها، يستريح بصري علي موجه غير
الظاهر، لا يبدو إلا اذا لامسته اشعة الشمس فتلوح لي تجعداته، اجمل
الاماكن التي احب ان اراه منها، عند شلالات اسوان وشاطيء سوهاج،
خاصة الجزر المتقاربة، ما من مكان في الدنيا يمنحني راحة مثل جزيرة
الزهور التي بنيت فوقها مجموعة من الشاليهات، صممت للاسف علي الطراز
الاوروبي، حيث السقوف المحدبة والقرميد الاحمر المساعد في اوروبا
علي انزلاق الامطار الغزيرة، وهذا تقليد غبي ينتشر في مصر، ورأيت
مثله في الخرطوم، خاصة في حي الرياض الذي يسكنه الاثرياء الجدد،
تماما كما هو الحال عندنا، في جزيرة الزهور بسوهاج شاليه عند طرف
الجزيرة الذي يشبه رأس المثلث، أو مقدمة السفينة، اتمدد فوق الموج
وإلي جواره، اسمع ارتطامه خاصة في ايام الفيضان. اتحول إلي ماء
.. الي قطرة من النيل، اتنفس الهواء النقي، ثمة جزر اخري ليت
اللواء محسن النعماني يضعها في مشاريع التعمير كأماكن للاقامة ولكن
بدون قرميد واسقف محدبة، هنا في الخرطوم اتذكر سوهاج والمنيا والاقصر
وقنا، حيث شواطيء النيل ماتزال بكرا لم تحاصرها بعد ناطحات السحاب،
والفنادق الضخمة، يوما كاد وزير الاسكان السابق محمد ابراهيم سليمان
ان يردم النيل ليحوله إلي جراج يتبع فندق الفورسيزون إكراما لعيون
هشام طلعت مصطفي وآخرين!
ياه. هل استدعي مثل هذه التفاصيل في مطلع النهار وانا مطل علي النيل
الذي مازال يحتفظ ببكارته الاولي في الخرطوم، قبل خروجي إلي الشرفة
كنت افكر في المياه المتدفقة بغرين الفيضان، في معني الماء، هل
النقاط متصلة ام منفصلة، هل جوهرها ثابت ام انه متغير، صحيح ان
الفيلسوف الاغريقي القديم قال انك لا تنزل في نفس النهر، يشير إلي
التجدد والتغير، لكن الماء هو الماء، ما من شيء يشبه نفسه مثل
الماء، غير انني في التدقيق اكتشف اختلاف المذاق، ما من ماء يشبه
مذاق النيل، لكننا افسدناه بالقاء المخلفات فيه، والتمادي في اهانته
بعد ان كان الناس لا يخاطبونه في صعيد مصر إلا بالطاهر، وفي مصر
القديمة. في محكمة الاخرة كان الميت لابد ان يقسم بانه لم يرتكب
ذنوبا جسيمة، اولها انه لم يلوث ماء النيل، حدث ذلك بعد ان انتفت
اخطاره اثر بناء السد العالي، وتحوله إلي مجرد مجري مائي اسهل شيء
الاعتداء عليه والتطاول من جانب اصحاب النفوذ، ثم ظهر اعلان تم اختيار
صوت صاحبه بعناية كأنه النذير في بداية عصر الانفتاح يحذر من شرب مياه
النيل ويروج لمياه الزجاجات التي قيل إنها معدنية، ثم تبين انها
لا صلة لها بالمعادن، ثم اتضح انها عملية نصب كبري، فمعظمها في
معامل وزارة الصحة اتضح من التحاليل انه يحوي جراثيم واخطارا أشد وأنكي
من مياه النيل الملوثة!!
لا.. بالتأكيد انا مزاجي ليس علي ما يرام اليوم، بدلا من التأمل
في المياه، ومتابعة مسيرة النيل، استسلم لاستدعاء وجوه وملامح
مرتبطة بالفساد والقتل والكوارث التي تمر بنا وامر بها، كنت انوي
التأمل في رحلة الماء عبر الموجود باعتباره اكثر العناصر حركة وهجرة.
سواء في سريانه عبر مجاري الانهار وبين شواطيء البحار والمحيطات ثم
صعوده بخرا ونزوله قطرا، غير ان مشاكل مصر غلبتني، رحت اطيل
النظر إلي النهر، ربما اشكو له في صمت يماثل صمته، ربما..
نساء السودان
الجمعة
للجمال الانساني تجليات شتي، في رأيي انه لا يوجد قبيح، لكن
يوجد نظر يمكنه رؤية الجمال أو القبح، ولكل منهما درجات أو صور،
ابحث عن الجمال في سائر الكائنات، حتي اننا نشبه الانثي التي تلفت
نظرنا بعناصر من طيور أو حيوان، ألا نقول »في خفة الفراشة« في
»رشاقة الغزال« أو »عيون المها« والمها نوع من البقر في الصحراء
العربية. للجمال الافريقي خصوصية وفرادة، ولأنني طفت العالم تقريبا
يمكنني القول انني لم ار ما يضارع جمال السودانيات، ربما يرجع هذا
إلي ان البلد مترامي الاطراف وانه معمل كبير للاختلاط البشري عبر الترحال
والانتقال الدائم، غير ان اكثف امتزاج جري بين الدماء العربية
والافريقية من هنا جرت هذه التركيبة التي انتجت جمالا فريدا، لا
مثيل له إلا في بلدان افريقية اخري مجاورة مثل الحبشة والصومال. في
زيارتي الاولي اتيح لي رؤية معرض من الجمال الانثوي عندما دعينا إلي
فرح في ام درمان. وللافراح السودانية تقاليد، الفرح يعقد في ساحة
مفتوحة تطل عليها البيوت. النساء يجلسن في جانب والرجال في جانب،
الحدث الرئيسي رقصة طرفاها العروسان، ترقص العروس وهي مغمضة، وفي
مواجهتها العريس، انه منتبه جدا، لان من صميم الرقصة ان تهوي فجأة
إلي الارض، وتقاس مهارته بلحاقه بها ومنعها من السقوط، لا أعرف
اصول هذه الرقصة، لكنها استمرت طويلا، وكانت فرصة لي ان اتأمل
الجالسات في المواجهة، وجوه رائعة الحسن، جمال انيق، طبيعي،
محترم، يبعث علي التأمل. لن انسي ذلك ابدا. في هذه الزيارة
السريعة لاحظت انتشار النساء في الاسواق وحول الاضرحة. يبعن الشاي
أو المشروبات التي تخفف الحر، واضح ان العبء ثقيل علي المرأة. كثيرات
فقدن ازواجهن في الحروب التي لم تتوقف في السودان منذ حوالي ستة عقود.
معظمهن يقمن بإعالة اسرهن، في اسواق ام درمان كنت اراهن بكثافة
، احيانا المح وجها من الجنوب، يمكنني التعرف عليه بالملامح القوية،
والجمال الخاص، واللون الاسود الذي يتماس مع حمرة الدم الساري،
في عام ثمانين اكتشفت جمال اللون الاسود الرائع وفتنته لكل لون جماله
وقبحه، لا يوجد جمال مطلق أو قبح مطلق، المهم، البصر الذي يري،
فما يراه البعض جميلا ربما يبدو في نظر الاخرين غير جميل، لكنني
اقول بثقة انني لم أر غزارة في الجمال الانثوي تشبه ما رأيته في
السودان.
يوتوبيا راشد دياب
الجمعة عصرا
بعد عودتنا من ساحة ود حمد النيل، بصحبة امير السيد ايضا اتجهنا
إلي المرسم الذي اقامه الفنان راشد دياب، تعرفت عليه في اسبانيا
منذ اكثر من عشرين عاما، كان مستشارا فنيا لدار النشر التي اصدرت
ترجمات كتبي الي الاسبانية، وقد صمم لي أغلفة اعتبرها اعمالا فنية
في حد ذاتها. عاد راشد دياب الي السودان ليؤسس في منطقة الرياض الحديثة
القريبة من المطار مركزا ثقافيا متكاملا. ان تسميته بالمركز أو المرسم
لا تجسد طبيعته بالضبط، انه واسع المساحة، في حجم قرية سياحية
من قرانا المطلة علي البحر الاحمر، وقد استعار راشد كافة العناصر
المعمارية التقليدية من جميع انحاء السودان. لم اكن بحاجة إلي استنتاج
أو بذل مجهود لاستدل علي زخارف النوبة وقبابها، وبعض التأثيرات من
الغرب والشرق والجنوب، اقام راشد هذا المجمع الثقافي بماله الخاص،
ليعد فيه الفنانين الجدد، وليدرس اصول الفن التشكيلي، والموسيقي،
والمسرح، وفيه مساحة كبيرة للاطفال، انه مركز لتنمية المواهب،
ورعايتها وفي الطريق اليه مررنا بقصور فاخرة للطبقة الجديدة لكن كل
منها مبني علي الطراز الاوروبي، طراز في غير مكانه، لاحظت ان
معظم الاسوار مغطاة بطبقة كثيفة من الاسلاك الشائكة التي تحاط بها
المعسكرات. وهذا يعني ضرر هؤلاء الاثرياء الجدد ممن لا يملكون شيئا،
الظاهرة موجودة في مصر ايضا، لكن الاثرياء عندنا اقاموا مناطق معزولة،
محاطة باسوار انيقة، وعلي ابوابها الشرطة الزرقاء »خاصة«،
في منطقة الرياض السودانية يمكن ان تري فقراء يتجولون للشحاذة، ولكن
لم يصل الامر بعد إلي حد العزلة، في كل الاحوال، العمارة تعكس
احوال المجتمعات وما رأيته في الخرطوم يشبه ما عندنا في المجتمعات
الجديدة والتي اطلق علي بعضها اسماء المنتجعات التي يعيش فيها اثري
اثرياء العالم. يبدو ما بناه الفنان راشد دياب غريبا وسط ما يحيطه
من قصور مشيدة علي الطراز الغربي. تعامل راشد مع المواد الخام المستخدمة
في السودان، وعرف كيف يخلق عوالم من الضوء. وضع ستائر من ألوان
اختارها بدقة، لن انسي تأثير اللون الازرق الذي احال احدي غرف
الاقامة إلي ما يشبه قاع المحيط الذي نفذت اليه اشعة الشمس لاول مرة،
المكوث فيه لبعض الوقت يحدث حالة ارتقاء داخلية لم اعرف لها مثيلا،
كذلك الغرفة الياقوتية، المكان كله كون من الألوان والجمال، وسوف
يكون له اثره الثقافي بعيد المدي، هذا هو التصرف الامثل للفنانين
الذين اتاهم الله سعة من المال الحلال. استثمروه في مشروعات تنمي
الثقافة، ولم يستثمروا الثقافة في انماء ثرواتهم من سلوكيات وأسانيد
غريبة!
من النثر العربي :
اذا سقط الأصل ، سقط الفرع
(قاعدة فقهية )
تصرف الفرد في المجموع ممنوع
(قاعدة شرعية)
رجوع
|